النهوض بالنشر إثراءٌ لحاضر ومستقبل المعرفة الإنسانية

النهوض بالنشر إثراءٌ لحاضر ومستقبل المعرفة الإنسانية
المصدر الاتحاد مايو 31, 2022

المعرفة نتاج تبادل، وشراكة، وتعاون، بين جميع البشر، ويكاد يكون لها خصوصية مطلقة حين يتعلق الأمر بصناعة الكتاب، هذه الصناعة الأسمى التي تتطور بتراكم الخبرات والتجارب، وتتطلب فكراً متفتحاً ووعياً متّقداً، لهذا حرصنا منذ تأسيس مركز أبوظبي للغة العربية على أن نوطّد علاقتنا مع مختلف الجهات والمؤسسات الثقافية العربية والعالمية لتحقيق رؤية شمولية تعنى بترسيخ اللغة العربية كجسر حوار مع الآخر، وتقدّم الإبداعات الأدبية من مختلف الأجناس للعالم بأسره وبلغاته المختلفة، لتلتقي وتتحاور على قاعدة من التفاهم والشراكة المعرفية والإبداعية.

واليوم بات علينا مع كل تلك المظاهر المتطورة والجهود المبذولة من مختلف الجهات والمؤسسات الثقافية، ومع اختلاف ظروف الحياة لاسيما بعد جائحة كورونا، بات علينا أن نؤمن بتغيّر الظروف والنظرة تجاه صناعة النشر حول العالم، لهذا عززنا روابط التعاون والشراكة التي تجمعنا مع كبرى معارض الكتب حول العالم وأبرز صُناعها، ومن أبرزهم معرض فرانكفورت الدولي للكتاب، الذي يشرّع الباب واسعاً نحو مواصلة العمل تحقيقاً لأهداف استراتيجية تصبّ في مصلحة تعزيز حراك النشر وتوفير الكتاب للقارئ.

كلّ ذلك يجعلنا ننتبه لأهمية قطاع النشر بعد الظروف التي مرّ بها، بوصفه الأساس والمنطلق للتعريف بالثقافات والإبداعات، لذلك تجمعنا علاقات تعاون مع الحدث الألماني الذي يعدّ من أهمّ الملتقيات بما يتعلق بحقوق النشر وتبادل المعارف. لهذا نتطلع لأن تثمر هذه الجهود لتعرّف بالثقافة العربية ورموزها، وأن تفتح المجال بشكل أكبر لتلاقي الثقافات بين القراء العرب والأوروبيين.

فكيف يمكن أن يكون الواقع الثقافي بلا نشر؟ وكيف كان لكل تلك المعارف والجماليات أن تنقل عبر العصور دون وسائل نشر؟ هذا ما جعلنا منذ انطلاقة مركز أبوظبي للغة العربية نضع جملة من التصورات والرؤى، من أجل الارتقاء بواقع النشر، ودعم القطاع والعاملين فيه، لأننا ندرك أهمية هذا القطاع الحيوي، لا سيما في ظلّ واقع تزدهر فيه التقنيات والأساليب، التي سهّلت من حراك النشر وطوّرته، وأخذته إلى آفاق أكثر اتساعاً ورفعة.

واستناداً إلى تاريخ طويل من الجهود وضعت دولة الإمارات استراتيجية بعيدة الأمد تخدم بناء الإنسان معرفياً، وتبنّت اقتصاد المعرفة، وهُيّئت مختلف الظروف من أجل رعاية المواهب والاستثمار فيها، لأنها تدرك بأن رأس المال البشريّ هو الثروة الأهم التي تخدم مسيرة النهضة المجتمعية المزدهرة، في الوقت ذاته مضت إمارة أبوظبي في تدعيم كلّ تلك التوجهات، وأطلقت الاستراتيجية الثقافية الخمسية، المعنية بجعل الثقافة أسلوب حياة يومية لمختلف الأفراد، وركيزة مرتبطة بتطور المجتمع المعاصر وقيمه الأصيلة، وصولاً إلى تثبيت أركان الصناعات الإبداعية، التي باتت اليوم لاعباً رئيساً في الاقتصاد الوطني بشكل عام.

وانسجاماً مع هذا المناخ العامّ، وباعتبار أن المركز جزءاً لا يتجزأ من هذه المنظومة، حرصنا على تفعيل دورنا، قطاع النشر ورعايته، من خلال جملة من البرامج والمبادرات الرامية إلى رعاية هذا القطاع، والاهتمام به، وتطوير صناعاته، بما يرقى بمكانة دولة الإمارات التي تعيش واقعاً متطوراً على صعيد النشر، حيث تشير الأرقام الإحصائية إلى أنه من المتوقّع أن تصل صناعة النشر في الدولة إلى 650 مليون دولار بحلول عام 2030، في ظلّ حجم سوق النشر العربي الضخم الذي يبلغ مليار دولار أميركي، ومن المتوقّع أن يتضاعف ثلاث مرات في حلول عام 2030.

ومن بين جهود المركز المعنية بالارتقاء بقطاع النشر مبادرة «أضواء على حقوق النشر»، الرامية إلى دعم نشر الكتب والمؤلفين، وتقديم كلّ ما يلزم من أجل إيصال الكتب والمؤلفات إلى القراء، خاصة في ظلّ جائحة كورونا العام الماضي، التي ألقت بظلالها على الكثير من أعمال الناشرين، حيث قمنا بتقديم 300 منحة بميزانية بلغت 2.3 مليون درهم، إذ أثبتت هذه المبادرة، التي تعدّ أكبر منحة لترجمة الكُتب في تاريخ المعرض، جدواها في تحفيز قطاع النشر، وتشجيع الناشرين على تعزيز قدراتهم وإنتاجاتهم الأدبية والإبداعية، وتقديم المعارف للقرّاء بأشكال الكتب المختلفة، «الورقية المترجمة»، و«الكتاب الإلكتروني»، و«الكتاب الصوتي»، مما يقود نحو إثراء ثقافة المجتمع، ويترجم رؤية المركز في تعزيز المعرفة، وإبقاء اللغة العربية حيّة في حياة الناس اليومية.

ومن المبادرات التي نهض بها المركز أيضاً، دعماً لقطاع النشر والناشرين، أننا أطلقنا خلال دورة العام الماضي من معرض أبوظبي الدولي للكتاب أولَ منصة افتراضية لتبادل حقوق النشر على مستوى المنطقة، كما أعفينا جميع الناشرين المشاركين من الرسوم والاشتراكات، تخفيفاً للأعباء التي لحقت بالقطاع، وترجمة لمكانة وريادة أبوظبي كمركز عالمي للحوار الإنساني والثقافي والإبداعي.

وبعد أن اختتمنا فعاليات الدورة الـ31 من معرض أبوظبي الدولي للكتاب، بنجاح، سيبقى المعرض حاضناً لمختلف الجهود التي تقود نحو الاهتمام بقطاع النشر والعاملين فيه، حيث حفل الحدث بالكثير من الأحداث التي تخدم صناعة الكتاب، لعلّ من أبرزها: «البرنامج المهني» الذي استضاف، مجموعة كبيرة من العاملين والخبراء في قطاع النشر، لمناقشة مختلف التصورات، وآخر التطورات والتحديات التي تطرأ على هذا القطاع محلياً وإقليمياً وعالمياً، وبحث على امتداد فعالياته في مجموعة واسعة من الفرص والحلول الواعدة، للارتقاء بالكتاب وحضوره في تفاصيل مختلف أفراد المجتمع اليومية.

واليوم، وبعد مشوار طويل قطعته صناعة النشر في تاريخ الحضارة الإنسانية، فإننا ندرك بأن كلّ جُهد يُبذل في سبيل نشر كتاب، وخطّ معرفة، وتأطير لوحة، وحفظ حقّ مؤلف، يخدم المسيرة المعرفية الإنسانية بصفة عامة، فالكتاب هو المشترك الحقيقيّ بين جميع الشعوب، والثروة الإنسانية الأهم، إلى جانب الفنون والموسيقى والإبداع المسرحي والسينمائي، التي يجب أن تصان وتُضمن حقوقها، ويُقدَّم لها المزيد من الجهود النوعية المدعّمة بالمعرفة الأصيلة، لتبقى شعلة تنير درب القرّاء، وترشدهم إلى آفاق من التقدّم والرِفعة.
رئيس مركز أبوظبي للغة العربية

مشاركة: