جميع الحقوق محفوظة | الموقع الرسمي للدكتور علي بن تميم
وَهل نَحن إِلَّا خطوط وقعن.. على نقطة وَقع مستوفز
مُحِيط العوالم أولى بِنَا..
فَمَاذَا التزاحم فِي المركز
طوال طريق العودة إلى أبوظبي، كنت أردد هذين البيتين للفارابي، واللذين ترنّم بهما الموسيقار الدكتور مصطفى سعيد، في حفل افتتاح "بيت الفلسفة" في الفجيرة. بدا البيتان معبرين عن اللحظة الراهنة، وعن المشروع العملاق الذي تعمل عليه الإمارات بقيادة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة "حفظه الله"، لكي تجدد مكانة العقل وتعزز فيه الاستنارة، ولكي تستعيد الفلسفة دورها في إيقاظ الوعي العربي ودفعه للتفكير في حاضره ومستقبله، ولكي تعيد للحضارة العربية بريقها في العالم كله.
"بيت الفلسفة" هو جزء من هذا المشروع، وإذا وضعناه بجوار " بكالوريوس الآداب في الفلسفة والأخلاق" الذي أطلقته جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، وعودة تدريس الفلسفة في مدارس الإمارات، ندرك أننا أمام مشروع وطني يتوجّه في أغلبه للأجيال الجديدة، سعياً لبناء نهضة حضارية مركزها تنمية العقل ومحاربة الأوهام واستكمال بناء الذات المواطنة، المستقلة في تفكيرها والمتوازنة في شخصيتها والمنفتحة على العالم بتنوعه والتي تمتلك القدرة على إعمال العقل دون الانجذاب للخطابات الظلامية. وكان الشيخ محمد بن زايد قد توقف مرات عدة عند دور الكلمة "أداة أساسية من أدوات مواجهة أفكار التطرف والإرهاب... الكلمة أمانة كبرى، ومثلما يمكن أن تكون هذه الكلمة لبنة صالحة في بناء التقدم والحضارة والسلام، إذا ما تم وضعها في موضعها الصحيح، فإنها يمكن أن تكون معولاً للهدم".
وقد ابتهجت وأنا أتجول في ردهات "بيت الفلسفة" بمبناه الجميل الذي يستمد من العمارة التقليدية أصالتها، ومن المعاصرة روحها، ومن بيوت الفلاسفة القدامى كما قرأنا عنها في الكتب شكلاً لتصميماته الداخلية، ومن الفلاسفة كـ"الكندي" أسماء لقاعاته. في مدخل البيت تجد شجرة خشبية، لعلها ترمز لشجرة الحكمة، علّق الزوار عليها أمنياتهم للصرح الثقافي الجديد بإنارة العقل، ثم يجد الزائر في مواجهته لوحتين نحاسيتين ليدين تفتحان كتاباً، إشارة إلى أن القراءة هي الطريق إلى الوعي والفهم والتفكير، والفلسفة هي درة تاجها.
أما أجمل ما يميز هذا المكان الذي ينبض بالفكر والمعرفة، فهو المكتبة الثقافية الفلسفية الضخمة والتي تحمل اسم عميد بيت الفلسفة الفيلسوف الدكتور أحمد البرقاوي، والتي تضم حوالي خمسين ألف كتاب ومرجع في الفلسفة، وفي جميع العلوم الأخرى المرتبطة بها كالموسيقى والرسم والأدب، باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية والألمانية. وهي أول مكتبة متخصصة في الفلسفة بالعالم العربي، تضم أمهات الكتب الفلسفية منذ العصر اليوناني وحتى يومنا هذا، كما توفر قسماً خاصاً بالتصفح الإلكتروني يتيح الوصول إلى عشرات آلاف الكتب والدراسات العربية والدراسات في اللغات الحية الأخرى. وكي لا يتوقف عمل المكتبة عند هذا الحد، وكي يكتمل دورها التنويري المنشود، فالمكتبة في طريقها إلى أن تعيد تحقيق التراث الفلسفي العربي، وتعيد قراءة وتقديم مخطوطات وكتب تراثية ذات صلة بعلوم العقل عبر متخصصين دون الانسحار بالماضي بل من أجل استئنافه من منطلقات الحاضر واستشراف المستقبل.
حفل الافتتاح البهي الذي شرفه بالحضور ورعاه سمو الشيخ محمد بن حمد الشرقي ولي عهد الفجيرة، شهد أيضاً إطلاق "برنامج صناع المحتوى الفلسفي"، وهو واحد من أهم المشاريع التي يجب الاهتمام بها، لأنه يواكب تغيرات العصر وتطلعات أبنائنا وأطفالنا، فلم تعد الأجيال الجديدة تكتفي بالكتاب مصدراً للثقافة والاطلاع، بل أصبحت لديها مصادرها الخاصة في مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة ومواقع صنع الفيديو، ومن هنا فالتوجه إلى هذه المنصات وتقديم محتوى فلسفي خطوة تستحق التقدير، لأنها تصل إلى الشباب في أماكن تمركزهم، خاصة وأن منسوب الفلسفة الإلكتروني باللغة العربية قليل جدا مقارنة باللغات الحية الأخرى لا سيما في مواقع التواصل الاجتماعي والتي في كثير منها تخلو من المحتوى الثقافي الراقي.
ويجب هنا أن أنوّه بالاهتمام الكبير الذي يوليه "بيت الفلسفة" بالنشء، من تخصيص قاعة للأطفال، إلى إصدار سلسلة "المذاقات الفلسفية" والموجهة لهم والتي تساعدهم على التفكير في الأسئلة الكبرى وترتقي بذائقتهم المعرفية وتنشئ جيلاً من الفلاسفة، وأيضاً سلسلة "الكتب الفلسفية للشباب" التي تهدف إلى نشر الوعي وتعزيز الفكر النقدي بطرق ميسرة على غرار الكتب العالمية في تبسيط العلوم، فضلاً عن الورش الفلسفية الموجهة للأجيال الجديدة.
وعلى صلة بالفلسفة، سعدت بالإعلان، خلال الحفل، عن أول مشروع يربط الفلسفة بالموسيقى، حيث أخبرنا الموسيقار المصري د. مصطفى سعيد، عن مشروعه "مقامات الفلسفة" الذي يسعى لدمج الفلسفة بالعلوم الحياتية، وقد اختار فيه قصائد لعدد من أبرز الفلاسفة والمفكرين العرب وقدّمها موسيقياً، وعلى رأسهم الحلاج وابن سينا والفارابي والمعري وأبو الطيب المتنبي، وهو المشروع الذي يسلط الضوء على الأهمية الكبيرة التي كان يوليها الفلاسفة للموسيقى باعتبارها غذاء للروح، بل إن الفارابي ألّف كتاب "الموسيقى الكبير" وهو أحد أهم المؤلفات الموسيقية التي كتبت بين القرنين العاشر والخامس عشر الميلاديين وكان مسهما في مجال الفلسفة والموسيقى في بلاط سيف الدولة الحمداني والذي كان أشبه ببيت الحكمة مما يعني أنه كان معاصرا لأبي الطيب، ولعل في شعر أبي الطيب إشارة إلى ذلك ودعوة إلى التفكير بالموسيقى والغناء، يقول:
ماذا يَقولُ الَّذي يُغَنّي
يا خَيرَ مَن تَحتَ ذي السَماءِ
شَغَلتَ قَلبي بِلَحظِ عَيني
إِلَيكَ عَن حُسنِ ذا الغِناءِ
أما ابن سينا فقد نسب إليه تطوير واختراع آلات موسيقية، وربط بين علمي الجمال والموسيقى، وكان يعتبر الموسيقى جزءاً من التربية الأخلاقية، لتطوير العالم الروحي للإنسان.
إن اهتمام إمارة الفجيرة بإنشاء بيت للفلسفة، يلقي الضوء على الدعم الكبير الذي يوجهه صاحب السمو الشيخ حمد بن محمد الشرقي حاكم الفجيرة عضو المجلس الأعلى للاتحاد وسمو الشيخ محمد بن حمد الشرقي ولي عهد الفجيرة، للفكر والفلسفة، كونهما يرسخان دور دولة الإمارات منارة ثقافية تضيء العالم، كما أن هذا الاهتمام يأتي كجزء من الرؤية الاستراتيجية لدولة الإمارات لاستئناف الحضارة، انطلاقاً من الإرث العربي الكبير إلى حاضر أثبتت فيه الدولة ريادتها في كافة المجالات، إلى مستقبل ريادي في التعايش والتنمية والتطور.
وبالعودة إلى بيتي الفارابي، وحديثه عن المركز، فإن ما تفعله الإمارات هو أنها بعد أن أصبحت مركزاً حضارياً بارزاً، فإنها تهتم بصياغة مستقبل العالم، عبر اهتمامها بعلوم إنسانية كالفلسفة ترتبط ببنية المجتمع وتنميته، هذه العلوم كفيلة بأن تساعد جميع الأمم على النهوض، وأن يكون كل منها مركزاً لنشر المعرفة والمحبة والإنسانية.
تدرك الإمارات أن طريقها إلى هذا يبدأ باستنهاض همم الأجيال الجديدة للاهتمام بالعلوم التي برع فيها الأجداد وتفوقوا، بل وأناروا العالم كله بتفردهم، وليس اختيار معرض أبوظبي الدولي للكتاب لمؤسس علم الاجتماع ابن خلدون ومن قبل باختيار ابن رشد وابن عربي، ليكون الشخصية المحورية له ببعيد عن هذا، فهو من أوائل من كتبوا عن كيف تنهض الأمم وكيف تقود، واستحضاره اليوم ليس فقط للإجابة عن أسئلة الحاضر، بل لاستنطاق المستقبل وتحفيزه ولعل الشيخ زايد رحمه الله واهتمامه بمقدمة ابن خلدون وبكتاب "العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر" شكل محوراً مهماً في منظوره للمجتمعات وتقاليدها وتحولاتها وارتباطها بالهوية كما كانت الرؤية الخلدونية للتاريخ والحضارات والعمران حاضرة في تفكيره ونظرته للتقدم.
ربما علينا أن ننتظر عدداً من السنوات، لن تطول، حتى نرى عشرات بل ومئات الفلاسفة، الذين تخرجوا في مدارس الإمارات وجامعاتها، وتفتحت عقولهم في بيت فلسفتها، وهم يرسمون مستقبلاً أفضل، ليس لوطنهم فحسب، بل للعالم كله. هذا هو ما نأمله، وهذا ما تخطط له دولة الإمارات، وستحققه كعادتها.